مشاركة المرأة في اتخاذ القرار

 

 

 

المرأة لم تكن نفسها أبداً، وكبتت دائماً إمكانياتها المبدعة هناك حيث سادت أجواء العنف التي تحكم عالم الرجال أكثر مما تحكم عالم النساء. والى هذه النقطة بالذات يجب أن نوجه اهتمامنا عند معالجتنا معضلة ابتعاد المرأة عن المشاركة في اتخاذ القرار بشأن ذاتها، وبشأن أسرتها ومجتمعها، وبشأن الإنسانية بأسرها، وهي التي صاغها الخالق وشرفها بإعطائها الدور الحاسم في تجديد الحياة الإنسانية والمحافظة عليها.

المرأة جنس يتكامل مع الرجل ولا يتميز إلا بكونه له خصوصية في إبداع الحياة ورعايتها. ولكن هذه الخصوصية تعطي عالم المرأة تمايزاً لا يمكن تجاهله. فليس من صالح المجتمع الإنساني أن يعزلها ويشترع لها دون أن يشركها في قراره، فتكون دائماً ظلاً وتابعاً دون مراعاة لحاجاتها وخصوصياتها، مما ينعكس سلبياً على حاضر المجتمع ومستقبله. فلا توجد هناك أسرة تكون المرأة مسحوقة فيها ويكون الأبناء أسوياء. والمجتمع الذي يبدأ فيه التمييز منذ سني الطفولة المبكرة بين الجنسين، ليجعل للذكر اليد العليا وللأنثى التبعية، وتتجدد دورة الحياة والأجيال فيه دون تطور كبير في وضع المرأة في الأسرة والمجتمع، يحكم على نفسه بالقصور والتشوّه.

لم يكن تحرير المرأة غاية منعزلة قائمة بحد ذاتها في ديانات التوحيد، كما لم يكن تحرير العبيد أو إنصاف المستضعفين غاية منعزلة في هذه الديانات. وإنما حكم وضعها، كوضع العبد أو المستضعف، بالأهداف البعيدة لديانات التوحيد، في توحيد المجتمع داخلياً بإزالة أسباب الانشقاق والصراع وإشاعة العدل فيه، وتوحيد المجتمعات الإنسانية فيما بينها بمنع العدوان والظلم، أصل الحروب، واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، والحض على التعارف والتعاون بين الأمم. واعتبرت ديانات التوحيد إخاء بني البشر أفراداً وأمماً بغض النظر عن  لونهم أو قوميتهم أو ثرائهم ونفوذهم أو تمايزهم بين ذكر وأنثى، وتساويهم المبدئي أمام الله، وبالتالي بداهة تساويهم أمام القوانين، وتكافؤ فرصهم، وتمايزهم فقط بصالح أعمالهم، ركناً أساسياً في عقيدتها. وانطلقت تحارب دون هوادة الأنانية والجشع الوثنيان اللذان يؤديان إلى تأليه البشر قويهم على ضعيفهم، وطغيانهم بعضهم على بعض، أفراداً كانوا أم جماعات ودولاً، وطغيانهم على بيئتهم من حولهم.

"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (الحجرات 13)

ولم تكتف ديانات التوحيد بوضع القوانين الناظمة للعلاقات في مجتمعات التوحيد، وهي قوانين متغيرة على كل حال بتغير الظروف والأزمان، وتجسيد هذه القوانين بمؤسسات. بل وجهت عناية مماثلة للتربية الأخلاقية للفرد للارتقاء بضوابطه الضميرية الذاتية، وللارتفاع بمستوى وعيه إلى الحد الذي لا يسيء فيه تطبيق هذه القوانين العامة، ولا يلتف حولها ويمسخها لخدمة أهداف أنانية بعيدة عن جوهرها، فينحط بها إلى وثنية ظالمة جديدة.

على هذا الجوهر الخالد لديانات التوحيد يجب أن تستند حركة تحرير المرأة، بل تحرير الإنسان قاطبة أينما كان مكانه على سطح أرضنا الواحدة.

وهنا لا بد أن أنوه أن خروج المرأة إلى ميدان العمل المنتج في عصرنا الراهن لم يحررها ويجعلها سيدة قرارها، كما لم يحرر من قبل العمل العبيد والمستضعفين، وكما لم يحرر حالياً المستغلين في الشعوب المحكومة  بأنظمة الربا العالمية. فقط الإرادة الواعية لغاية وجود الإنسان على هذه الأرض، والنابعة من الالتزام الأخلاقي الفردي والجماعي بمثل التوحيد، قادرة على تحرير العمل والإنسان.

عندما توضع الأهداف الكبيرة أمامنا، سرعان ما يخطر ببالنا أن نجزئها، ونعمل على إنجازها بخطوات صغيرة متتالية. فما هي الآليات العملية المقترحة، حسبما أرى، التي توصل المرأة إلى حقها في المشاركة في اتخاذ القرار في العصر الحديث؟ حيث نالت كثيرات من النساء التعليم والثقافة والتدريب، ونزلن إلى العمل الإنتاجي خارج المنزل، ومارسن المهن المختلفة الحرة والفنون، واستلمن الوظائف، وقمن بالخدمات، ومع ذلك بقي مستوى مشاركتهن في اتخاذ القرار متدنياً حتى في الدول المتقدمة.

1– في المجتمعات التي تسود فيها فلسفة العنف والتسلط، في الخارج بالهيمنة والحروب، وفي الداخل بالقمع الظاهر والمستتر، بدءاً بأشكاله المتطرفة كالدكتاتورية والمخابراتية وانتشار المافيا والفتن بسبب غياب العدالة الاجتماعية لجماهير الناس، وحتى أشكاله الأرقى حيث تمارس النخب الاستغلال في ظل حريات مشوهة، تُطلق أيدي الناس فيها حسب علو مراتبهم في هرم النفوذ الاقتصادي السياسي الاجتماعي، وتغل كلما دنت واقتربت من قاعدة الهرم، تصبح القوة هي مصدر القرار ويتقلص دور المرأة.

إن منطقتنا المبتلاة بأنظمة ليس لها صفة ديموقراطية تحتل مرتبة متقدمة في سلم المجتمعات التي تمارس العنف ويمارس عليها. ومن البديهي أنه لا يمكن لمجتمع أن يعطي حرية اتخاذ القرار للمرأة بينما لا يملك عامة الرجال مثل هذه الحرية. وخصوصاً حين تكون البنى في مثل هذا المجتمع غير متطورة، وغير مستعدة أن تتواكب مع التطور بسبب الأفكار الاجتماعية السائدة. فالشرط الأولي لتحرير الرجل والمرأة أن تكون المجتمعات ديموقراطية. وهذا يعتمد على كفاح مشترك لرجال ونساء مجتمعاتنا لتشكيل جماعات ضغط تعمل لصالح الديموقراطية.

وعلى المؤسسات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها، كذلك على الدول الديموقراطية التي سبقتنا في هذا المجال أن تساند هذا الاتجاه الذي يعمل في سبيل إرساء أسس الديموقراطية في منطقتنا. وكي تكون هذه المساندة فعالة فلا بد للدول الديموقراطية، وغالبيتها من دول الغرب التي تملك مصالح استراتيجية في بلادنا، أن تعتمد في علاقاتها معنا مبدأ أخلاقياً إنسانياً بعيد المدى بدلاً من المبدأ النفعي الآني الضيق الذي تعتمده حاليا.

ولا بد من التنويه أن تشريع القوانين الديموقراطية وبناء المؤسسات الديموقراطية لا يكفيان لجعل المجتمع إنسانياً توازن فيه مصالح وحاجات مختلف فئاته ومن ضمنها نساؤه. وكما أشرنا سابقاً يبقى الارتقاء بالضوابط الضميرية الذاتية، والارتفاع بمستوى وعي الأفراد والجماعات، الضامن لحسن تطبيق القوانين، والانتفاع بالمؤسسات الديموقراطية بما يعود بالخير على الناس كافة.

2- إن تغيير الوعي الاجتماعي بالنسبة لدور المرأة في المجتمع يتحقق بالتقدم الطبيعي العام، الاقتصادي والاجتماعي، في المجتمع. وتتطور تبعاً لذلك مؤهلات النساء أنفسهن. ولكن يجب أن لا نقلل من شأن التثقيف الجماهيري لوسائل الإعلام ودور العلم لتغيير تصورات تقليدية عن دور المرأة في المجتمع. وهذا الأمر يسرّع عملية اقتناع الرأي العام قبل أن يتطور بشكل طبيعي في صالحها.

3- إن تشكيل جماعة، نابعة من جماعات الضغط الديموقراطية، لتدافع عن حقوق المرأة، وتؤلف فرعاً ينتسب إليه لا علاقة مباشرة له بالأحزاب السائدة بتياراتها المختلفة والمتصارعة في أحيان كثيرة، يعتبر أمراً حيوياً في الانتقال، بمسألة مشاركة المرأة في اتخاذ القرار خصوصاً وتحرر المرأة عموماً، من الأدبيات إلى مجال التطبيق. وتستمد هذه الجماعة قوتها من خصوصية دور المرأة في المجتمع، ويكون لها وزن في دعم القرارات والتشريعات التي تكون في صالح المرأة بشكل عام، عبر تنسيق مصالح كل القوى التي تمثلها. وتنسق هذه الجماعة أعمالها مع جماعات حقوق الإنسان، وحماية البيئة، وحقوق الأقليات، وغيرها من الجماعات الديموقراطية، لتشكيل الرأي العام.

 يكون للجماعة الديموقراطية المدافعة عن حقوق المرأة دورها التوفيقي بين مختلف وجهات النظر، ودورها الضاغط في منع الظلم الاجتماعي لأي فئة كانت، ودورها التقدمي في نشر الديموقراطية وتعميمها لتشمل كل بنى المجتمع، ودورها الإنساني العام في تقارب المجتمعات الإنسانية. وتدعم الجماعة المدافعة عن حقوق المرأة طموحات الأجيال الجديدة من الشباب. وتدافع عن حقوق الأطفال والمتقدمين في السن. وتعمل على استكشاف وممارسة أساليب الخلاص من التخلف دون ممارسة العنف الاجتماعي، وعلى إحداث التراكم المادي الضروري لذلك بالوسائل السلمية القائمة على التعاون والتكافل والتضحية المتبادلة. ويكون لها دور في شجب الظلم والممارسات التخريبية واللصوصية والفساد في المجتمع وفضح القائمين بها، وفي إعادة المجتمعات إلى توازنها الطبيعي على النطاق الطائفي والطبقي، من مبدأ أن المجتمع هو للجميع ويتقدم الأصلح في كفاءاته، ليس على أساس المنافسة الشرسة بل المسؤولية المتبادلة، كل من موقعه المؤهل له. وتعمل على شفاء السيكولوجية المشوهة والمنتشرة على نطاق واسع التي تدفع الأفراد للحصول على الامتيازات بالتكتلات المغلقة، الطائفية أو الطبقية أو القومية أو الجنسية، أو بالتقرب من صانعي القرار في مجتمعات القوة والدكتاتورية.

4- إن التنسيق بين عمل المرأة المنتجة وبين دورها  في الإنجاب ورعاية الأطفال هو أمر في غاية الأهمية، إذا أردنا الحديث بجدية عن مشاركة المرأة باتخاذ القرار. وتحدد واجبات المجتمع تجاه المرأة في توفير حضانات على مستوى لائق من الرعاية، دون أن يحرم الأطفال من الخصوصية التربوية للبيت، وتحتفظ الأسرة بالدور الرئيسي في هذه العملية. ويجب أن ينظم المجتمع بشكل يسهّل للمرأة العمل والتنقل دون إسراف في تكليفها فوق طاقتها بساعات عمل طويلة أو إضافية، فيكون هذا الإرهاق عبودية جديدة لها. والغاية هي الوصول إلى الشكل الأمثل للأسرة المتعاونة، المصونة الحقوق، الراعية لجيل سوي. إن عمل المرأة، وبناء علاقات حيوية لها بالمجتمع، تساعد على تحقيق ذلك بشكل أفضل من عزلها وقصرها على مهام البيت والأولاد والزوج فقط، مهما كان الرجل منصفاً في ضمان حقوقها، ومهما كانت ظروفه الاجتماعية تكفل لها ولبنيها الرخاء.

5- السعي إلى رفع المستوى التعليمي والثقافي والتدريبي لكافة النساء بحيث يصبحن في مستوى الرجال. لهن مثلهم الحد الأدنى من العلم، الذي لا يجب أن يقل عن تسع سنوات دراسية لكلا الجنسين كحد إلزامي أدنى، وتتاح لهن فرص الدراسات العليا إن أبدين أنهن كفؤات لذلك.

6- الحث على خلق وتنويع فرص العمل المأجور داخل المنازل وتشجيع هذا التوجه في المجتمع. وتبرز بشكل متزايد إمكانيات جديدة للقيام بكثير من الأعمال من المنازل مع انتشار الكومبيوترات الشخصية وشبكات الاتصال.

7- على التيار النسائي الديموقراطي في منطقتنا أن يعبر عن مصالح إنساننا ضمن الإطار الإنساني العام. فيتبنى وجهات النظر التي تعبر عن مصالحنا المشروعة، ولا ينجرف وراء الدعوات التي تطلقها جهات أخرى دون التمعن فيها لتبين مدى صلاحها لنا. فمثلاً تحاول بعض الجهات الغربية المتنفذة في الأمم المتحدة أن تسخر الحركة النسائية في بلادنا لتنفيذ سياستها في تحديد النسل في العالم الثالث وفي عالمنا العربي والإسلامي بالذات. ولا يدفعها إلى هذا حرصها على مصالح إنساننا ورخائه، أو المصلحة الإنسانية العامة، بل تصورات ضيقة عن خطر مزعوم يهدد مصالحها الاقتصادية الآنية ويهددها ثقافياً. إن مثل هذا الأمر لا يمكن تنفيذه قسراً، ولكنه يحدث بشكل عفوي حين تشعر المجتمعات بالاطمئنان، وتزداد ثقافة المرأة.

8- وحتى في حال حصول تقدم على صعيد التحولات الديمقراطية يجب مواصلة الضغط، كي تضمن الدساتير تخصيص نسبة دنيا للنساء في المجالس التشريعية، لا تقل عن عشرة بالمائة حسب اعتقادي. إن النسبة الطبيعية لبرلمان ديموقراطي حقاً، في مجتمع يساوي المرأة بالرجل، هو أن يكون لها نصف المقاعد كما للرجل. ولكن ظروف المرأة في كثير من بلدان عالمنا المعاصر لا سيما العالم الثالث لا تسمح بأن تكون هذه النسبة واقعية، فنسبة عشرة بالمائة كحد أدنى، لإيصال وجهة نظر النساء إلى التشريع، تعتبر بداية محتملة خجولة، وتكون نسبة 50 بالمائة رقماً مثالياً للتطور الطبيعي في المجتمع.

9- يجب العمل بجد على فتح باب الاجتهاد في التشريعات المعاصرة المتعلقة بالمرأة. فيتم استيعاب التغيرات التي حدثت في المجتمعات التي انتقلت من الطور الحرفي إلى الطور الصناعي، ومن ضمنها المجتمعات الإسلامية، والتغيرات الحاصلة في مرحلة الانتقال العالمية إلى طور أعلى. ويجب القيام بجهد تثقيفي وتنظيمي جاد كي توضع هذه التشريعات بمتناول النساء والرأي العام.

في الماضي كانت التشريعات الإسلامية المتعلقة بالمرأة متقدمة على مثيلاتها في أنحاء أخرى من العالم، وكثير من الحقوق التي تمتعت بها المرأة المسلمة لم تحصل عليها نظيرتها الغربية مثلاً حتى القرن التاسع عشر ومطلع هذا القرن. وأسوق مثالاً على ذلك مبدأ انفصال الملكية الزواجية في الشرع الإسلامي. فالشرع قام على أساس انفصال ثروة الزوجة، التي تأتي بها من أهلها أو من زواج سابق أو تحصل عليها بعملها أو يهبها إياها زوجها، وليس للزوج سلطان عليها. ومثل هذا الحق ضمن العدالة في الأسرة المسلمة حتى في حال تعدد الزوجات. ومع ذلك فان انتقال المجتمع الإسلامي من الطور الحرفي إلى الطور الصناعي جعل هناك فجوة في التشريع، لا تستوعب وضع المرأة المسلمة المعاصرة. هذه الفجوة لابد من سدها بالاجتهاد آخذين بعين الاعتبار النواحي الإيجابية في تجارب الآخرين. ولا بد أن يفتح هذا الباب لتشارك المرأة فيه، فتشارك من لها الكفاءة والعلم الكافيين في الاجتهاد لسن تشريعات جديدة، تكفل حقوق المرأة ضمن الروح الإسلامية، التي تتوخى في غاياتها العدالة في الأسرة وسلامة المجتمع.

10- إن الجهل بالتشريعات والقوانين يعيق الفرد عن ممارسة حقوقه، ولا شك أن التعريف بالتشريعات والقوانين ووضعها في متناول المرأة والرأي العام يلعب دوراً هاماً، ليس فقط في جعل مشاركة المرأة في اتخاذ القرار أمراً واقعياً، بل في اتخاذ القرار الصحيح أيضا. وتبرز هنا أهمية وسائل الإعلام في رفع مستوى الثقافة الحقوقية عند النساء. كذلك قد يكون من المفيد إقامة مراكز استشارية تتعهدها الجماعة الديموقراطية النسائية تقدم النصح والعون العملي لمن تحتاجه.

11- تعزز جميع حقوق المرأة المسلمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كفلتها لها أصلاً الشريعة الإسلامية، وتراجعت عنها الممارسات الواقعية في المجتمع المسلم. إن المرأة المسلمة شاركت منذ اللحظة الأولى في الجهاد العظيم لنشر الإسلام والدفاع عنه. وغنية عن التعريف سير أولئك النسوة اللواتي خلدهن التاريخ، وكثيرات غيرهن لم يعرفن وخلدن بعملهن الصالح وجهادهن في سبيل الدعوة الجديدة عند رب العالمين. وتاريخنا مليء بهذه السير التي أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، فمن جهاد أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها، إلى ابنة الصديق أسماء ذات النطاقين، إلى أم عمار بن ياسر التي عذبت مع زوجها وابنها فماتت وزوجها تحت العذاب دون أن يتراجعا عما آمنا به. وزنيرة التي عذبت في سبيل الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلا إيماناً، والخنساء الشاعرة أم الشهداء التي كانت تحض أولادها على الجهاد في ساحة المعركة، فلما بلغها نبأ استشهادهم قالت "الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم جميعا". نساء لولاهن لم يكن للإسلام وجهه الخالد المضيء نفسه. وقصة زوجة أبان، التي قتلت حامل العلم الرومي في معركة اليرموك، وأوقعت جيش الأعداء في الفوضى، وساهمت  في صنع النصر، شهيرة في تاريخ الفتوحات. وكذلك قصة خولة بنت الأزور ورفيقاتها اللواتي خلصن أنفسهن من الأسر والعبودية لجيش الروم. إن المرأة المسلمة كانت تمارس ما اعتادت عليه في الجاهلية من مرافقة الرجال في الغزوات والدفاع عن نفسها ببسالة إن هوجمت، وفي أوائل الإسلام أخذت النساء المسلمات يطالبن الرسول في أن يكون لهن الحق بممارسة الحرب واكتساب الأجر حتى يكن مساويات للرجال. وروي أن أم سلمة زوجة الرسول ومعها نسوة قالت"ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم"، فنزلت الآية "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله بكل شيء عليم" (النساء 32). لقد أعفى الله النساء من فرض الجهاد في ساحات المعارك واعتبر جهاد المرأة السلمي في بيتها بإنجاب الأطفال، وهي عملية خطرة، وتربيتهم تربية صالحة، وهو أمر شاق، يماثل في أجره جهاد الرجل مقاتلاً. وأما من اختارت القتال فهو تطوع وزيادة في التضحية، إذ يعرض المرأة المسلمة للقتل، أو أن تؤخذ أسيرة وتصبح أمة . وبعد نزول هذه الآية استمرت النساء المسلمات في التطوع بمرافقة الجيوش المسلمة التي غيرت فتوحاتها مسار تاريخ البشرية. والمرأة المسلمة كانت تشارك في السياسة. وانتقدت النساء المسلمات الخلفاء، وتوسطن في حاجات الناس . والنساء المسلمات قمن بمختلف أعمال البر، من بناء المساجد والمدارس والمشافي، وجر المياه من أموالهن الخاصة، وروين الأحاديث الشريفة، ودرّسن الفقه، ومارسن الطب والفنون، ونظمن الشعر. والمرأة المسلمة في الطور الحرفي الإسلامي كانت على العموم منتجة، تقوم بمختلف المهن التي يتيحها الاقتصاد المنزلي، وتؤجر على عملها، وتحتفظ بأجرها لها ولأولادها. ولم تتوقف عن الإنتاج إلا حين اكتسحت السلع الآلية السوق، وانهارت الحرفة في الشرق، وانهارت معها مقوماتها. فعاشت في بطالة، حتى انتقلت بعدها إلى مجتمع جديد. فقامت بأعباء جديدة خارج المنزل، دون أن يسعى المجتمع المسلم إلى تحسين وضعها وإنصافها بسبب غياب الاجتهاد.

حتى تكون المرأة نفسها وتشارك في صنع القرار يجب أن تسبح في بحر الحياة بإمكانياتها فليس سوى السمك الميت يمكن أن يجرفه التيار. أما امرأة وزيرة وبضع نساء يعملن في السياسة وحفنة من النساء الموظفات فما هي إلا صور سرابية لتحرير المرأة يعطيها المجتمع المتبجح الكاذب المتخلف في ما يحيط به نفسه خجلاً من المتطورين.

لقد آن الأوان للمرأة أن تتفتح وتأخذ دورها، فالعصر معها. والإمكانيات الجديدة وتكنولوجيا العصر تساهم في تطوير قدراتها، وتهيئ الظروف كي تصل إلى مراكز اتخاذ القرار فيما يتعلق بذاتها وبأسرتها وتجاه مجتمعها. وحتى تجاه جملة المجتمعات الإنسانية التي تتقارب اليوم، فتتقارب الأفكار، ويتوحد الاقتصاد، وتتوحد مشاكل الناس وطموحاتهم في بناء عالم جديد.

يسرى الأيوبي