أرض اللبن والعسل:

إننا في هذه الدراسة نلفت النظر دوماً إلى ما تتمتع به منطقة المحيط الهندي من ثروات هائلة أسطورية كانت دوماً محط أطماع الطامعين، وإلى الأهمية الفائقة لمنطقتنا في الاقتصاد العالمي كطريق إلى تلك الثروات وكمنطقة وسيطة تمرّ عبرها تجارة العالم جيئةً وذهاباً. وننبّه أيضاً إلى أن الوطن العربي مكتنز بالنفط فيتضمن من هذه المادة أكثر من ثلثي احتياطها العالمي.

ولنختصر كل ما يدور حول هذه النقطة

بالذات بالشهادة التالية للجغرافي الفرنسي "أليزيه ريكلوس" التي أوردها الصهيوني "كادمي كوهين" في بحثه "دولة إسرائيل" ليستفيد منها في محاولته إبراز الأهمية الحاسمة لكيان صهيوني يهودي في فلسطين وما حولها من أقطار عربية بالنسبة لمصالح الغرب. تقول الشهادة: "كان وادي الفرات ووادي دجلة يشكّلان خطّاً تاريخياً ذا أهمية رئيسية في العالم. فمن هناك كان يمر الطريق الذي يضم خطوط الملاحة البحرية بين الهند وبلدان البحر الأبيض المتوسط مارّاً بالوادي الذي يمتد عبر آسيا القديمة، والمقطع العرضاني للخليج العربي الذي يتجه نحو الشمال الغربي، والمنطقة الساحلية للبحر الأبيض المتوسط، وبسلسلة الجبال التي تتصل بالوادي المنخفض لنهر العاصي. إن الانخفاض الطبيعي يتواصل من بحر إلى آخر. ومنذ أن عرف الإنسان توجيه السفن فوق البحار أصبح وادي الفرات صلة الوصل بين الشرق والغرب، وحلّ محلّ مسالك إيران الوعرة التي كانت تسير بين سلاسل الهضاب والجبال.

إن المزايا متماثلة بين وادي الفرات ووادي النيل، وإن كان الفرات يشكّل درجة أهمية أقل من النيل. وقد اكتملت حركة التاريخ بشكل متوازٍ بينهما. فبابل هي المنافس الطبيعي لمصر فيما يتعلق بالتجارة العالمية. كما وأن السيادة القوية لكل من البلدين كانت تحاول السيطرة دائماً على خطر غريمتها من أجل إزالته أو منافسته. وفي أكثر من حقبة زمنية بدت بلاد ما بين النهرين متفوقة كمركز للمقايضة التجارية. فمند خمسة وعشرين قرناً كانت بابل مستودعاً لثروات الهند. وقام الملك نبوخذ نصّر الذي كان سيد تارادون على الخليج العربي باحتلال مدينة صور على البحر المتوسط كي يسيطر على كافة طرق المواصلات، عندئذ أصبح وادي الفرات الخط الرئيسي التجاري في العالم حتى إنه فاق بأهميته طريق البحر الأحمر وطريق وادي النيل تلك هي منطقة الشرق الأوسط التي كانت (ولا تزال) مركز العالم القديم حيث ازدهرت تدمر وحيث برَّرَتْ عدن تسميتها الشهيرة جنّات عدن".

انتهى قول أليزيه ريكلوس. ونقول أيضاً إن الاستعمار الرأسمالي الاحتكاري، وخاصة منه الولايات المتحدة الأميركية، طوّر ثلاثة امتدادات له في هذه المنطقة الهامة: إسرائيل وجنوب أفريقيا وأستراليا. وحاول أن يجعل من فييتنام امتداداً رابعاً له فهزم بكل أشكاله: بدءاً من اليابان وانتهاءً بالأميركيين اليانكي ومروراً بالفرنسيين.

إن الإنسان السويّ في هذه المنطقة الوسيطة، وهو سواد الناس الذين طوّروا أمهات الحضارات الإنسانية، طمح دوماً إلى أن يجعل من منطقته هذه دار سلام يتبادل العالم على أرضها المنافع دون عبودية أو قهر من أيّ شكل كان. لذلك ترددت الرسالات هنا كسلسلة طويلة رائعة من الثورات الإنسانية الهادفة إلى تحقيق ذلك الهدف السامي. ولكن الردّات إلى الوثنية العبودية كانت تحدث أيضاً بقيادة أقليات تغريها الشهوات والأنانية للانفراد بالتمتّع بتلك الثروات الكبيرة المتحققة هنا. وكان من أشهر وأشأم هذه الردّات تلك التي حصلت في أوساط اليهود الذين قام قادتهم وكهنتهم بحرف العقيدة الموسوية بعد تجميدها لجعلها في خدمة منافعهم الأنانية وهي التي أتت في الأساس لخدمة عامّة البشر. فلم يكن أصحاب موسى عليه السلام إلا مجاهدين من أجل هذا الهدف وليس من أجل عزل أنفسهم عن كافة الناس كما فعل خلفاؤهم أولئك المنحرفون بالاستئثار بتلك الخيرات الآنفة الذكر؛ لقد استمرأ أولئك الذين خلفوا قادة الثورة الأولين النعيم المادي الذي تحقق بهذه الثورة لتتّسع به وتفيد عامة البشر فحوّلوه عن هذا الغرض واحتكروه لأنفسهم من دون الناس أولاً وعزلوا أنفسهم وأتباعهم لهذا الغرض، ثم تفسخوا وفقدوه وفقدوا أنفسهم معه وتاهوا وأصبحوا خدماً لكل طامع ظالم يبحث عن أعوان وقواعد يقيمها في هذه المنطقة الأسطورية.

وفي النتيجة تولدت عنهم صهيونيتهم الأخيرة التي التقت مع الصهيونية الأميركية التي وجدت فيهم خير امتداد لها في قلب إمبراطوريتها العبودية الرأسمالية. فالصهيونية اليهودية الحديثة منذ قيامها في أواخر القرن التاسع عشر وضعت هدفاً لها هو تحقيق قاعدة للمستعمرين الرأسماليين ينطلقون منها لاستعباد الآسيويين وإيقاف تقدمهم الحضاري ونهب ثرواتهم. يقول الصهيوني كادي كوهين الآنف الذكر: "..خلق دولة في الوطن القديم للعرق اليهودي تدور في فلك أوروبا الغربية وتصبح المخفر الأمامي للعالم المتمدن يقف في وجه آسيا التي بدأت تستيقظ.. فالصهيونية بحاجة إلى مؤازرة الدول الكبرى..".

إن الولايات المتحدة الأميركية، التي وحّدت الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة في إمبراطورية رأسمالية احتكارية عالمية متعددة الرؤوس موحدة بزعامتها، عملت على تحقيق إدامة استعباد آسيا وأفريقيا وبقية العالم المتخلّف بالشكل التالي:

_ في المنطقة العربية عملت على التسلّل في الحركات الوطنية التي كانت تناضل ضد المستعمرين الأوروبيين، وعلى المساعدة في فك ارتباط مختلف الرجعيات بأولئك المستعمرين القدماء وعلى الأخص منهم الإنجليز في مناطق النفط وعلى طريق هذه المناطق وربطها بأجهزة مخابراتها وبخيوط شبكتها الاستعمارية قيد الإنشاء حينذاك، وبالتالي ملء كل "فراغ"، بحسب تعبير رئيسها أيزنهور، يتركه الاستعمار الأوروبي القديم "بالحضور الأميركي". وعلى غرار جميع الإمبراطوريات العادِيَة التي قامت عبر التاريخ الإنساني نمت في القيادة الرأسمالية الاحتكارية الأميركية "مشاعر الصهيونية" و "مشاعر الانجذاب" إلى الأماكن "المقدسة" على أبواب طريق الثروات وكنوز المواد الأولية العالمية، على أبواب الطريق الأسطوري لحيرام وسليمان وبلقيس. فوضعت كل ثقلها وقوتها لإقامة القاعدة إسرائيل على شكل دولة عندما أتى الوقت لتحلّ مكان الإمبراطورية البريطانية الغاربة.

_ في أوروبا التي خرّبتها الحرب طرحت مشروع مارشال لدعم اليمين الرأسمالي الاحتكاري وتمكينه من إعادة بناء جهازه الاقتصادي تحت إشرافها وبالتالي تثبيت حكوماته هناك في وجه تصاعد نقمة الجماهير على ذلك النظام الذي سبّب لها الحروب المدمّرة على الدوام وآخرها الحرب العالمية الثانية المنقضية بكل ويلاتها. وفي أثناء ذلك عملت على توجيه تلك الحكومات لبناء حلف عسكري تتزعمه هي تحت اسم "حلف شمالي الأطلسي". وقد استفادت لتحقيق هذا الحلف من الرعب الذي اعترى اليمين الأوروبي الآنف الذكر أمام تصاعد الحركة اليسارية هناك وتعاظم قوة المعسكر الاشتراكي وامتداده في العالم. فالمتنافسون الأعداء الذين طالما اقتتلوا وتفانوا في الحروب، وفي طليعتهم يأتي الاحتكاريون الإنجليز والفرنسيون والألمان الغربيون، ساروا بزعامة الأميركان في طريق التكتل لصدّ موجة الجماهير العارمة هناك التي كادت أن تقتلع أنظمتهم.

Text Box: .. إن الصليب رمز لخلاص الإنسان من العبودية وليس ستاراً لتبرير العدوان والقهر وإبادة الأجناس كما يفعل عتاة الرأسمالية المعاصرون وفعل قبلهم الذين سمّوا أنفسهم كذباً صليبيين..
Text Box: الصفحة الرئيسية | الفهرس ║  الصفحة السابقة | الفصل الثاني | الصفحة التالية
Text Box: 13