Text Box: الولايات المتحدة الأميركية تفرض قيام إسرائيل:
كان موقف الأميركان في منطقة الشرق الأوسط أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كانوا منهمكين في تحضير الأسس التي سيبنون بها إمبراطوريتهم العالمية، يشبه موقف الإنجليز عشية صدور وعد بلفور الذي يتلخص في "تطمين كل الفرقاء المتعارضين بوعود متناقضة". ففي عام 1942 مثلاً وعد روزفلت وايزمن بتسوية قضية فلسطين بما يرضي اليهود، ولكنه أرسل في عام 1943 رسالة سرية إلى الملك عبد العزيز آل سعود يؤكد له فيها أنه "لن يطرأ أي تبديل على الوضع في فلسطين دون استشارة العرب واليهود". وعلى عادة قادة العرب فهم الملك السعودي من كلمة "استشارة" هذه معنىً أوسع بكثير من دلالتها التي لا تعني أبداً في مثل هذه الأمور والظروف التزام المستشير برأي المستشار وإنما تعني فقط استنارة الأميركان بآراء من استشاروهم لتحديد مختلف المواقف بدقة وبالتالي رسم أسلم طريق إلى أهدافهم واتباعه. وفي الطريق إلى مؤتمر يالطا كشف روزفلت لرفيق الدرب تشرشل عن عزمه على مقابلة الملك عبد العزيز آل سعود وعن اهتمامه البالغ بإحلال السلام بين العرب واليهود، الأمر الذي أدخل الغمّ على قلب رئيس الوزراء البريطاني، بحسب ما جاء في مذكرات وزير خارجية روزفلت جيمس بيرنز الذي حضر المشهد. فذلك المستعمر العريق تشرشل استشمّ في نشاط روزفلت في قدس الأقداس حيث يستقر قلب الإمبراطورية البريطانية على طريق النفط والهند النسمات الأولى المنذرة بالعواصف التي ستقوّض هذه الإمبراطورية لصالح الاستعمار الأميركي الجديد.
لقد دخلت بريطانيا الحرب العالمية الثانية لتحمي إمبراطوريتها من الزوال على يد عدوّها النازي الألماني فإذا بحليفها وتوأمها الأميركي يأتي لينجز ما عجز عنه ذلك الألماني فيعمل على هدم تلك الإمبراطورية ليبني على أنقاضها استعماره الجديد. ولكن ما كان أبداً باليد حيلة فكان لا بدّ من مجيء أميركا لإنقاذ أولئك المستعمرين القدماء ثم الحلول مكانهم في زعامة وقيادة النظام الرأسمالي الاحتكاري وهم في مواجهة خطر زوال نظامهم العالمي على يد الشعوب الثائرة أو يد الأعداء الآخرين. ثم إن روزفلت، بعودته من يالطا، اجتمع بالملك السعودي على ظهر المدمّرة "كوينسي" الراسية في ميناء بور سعيد حيث أكد مرة أخرى لهذا الملك بأن " لا يقوم الأميركيون بأية حركة عدائية ضد العرب". إلا أنه بعد أن ضمن لدولته أقوى وأغنى موطئ قدم في المنطقة العربية بذلك اللقاء، عاد ليؤكد للصهاينة اليهود عدم تغير موقف بلاده من أطماعهم، وذلك بحسب ما جاء في كتابات النائب البريطاني كروسمان حول هذا الموضوع. وقبل موته بأسبوع أكد روزفلت للملك السعودي عزمه على معاملة العرب معاملة عادلة!… ونحن نظن أن الهنود الحمر لاقوا مصيراً عادلاً بحسب ما كان يعتقد هذا الرئيس الأميركي، ككل من سبقه ولحقه من رؤساء دولته.
كان المجلس الأميركي الصهيوني يمثل أصدق تمثيل التقاء الصهيونيتين: الأميركية الرأسمالية الاحتكارية واليهودية. فكان هذا المجلس مثلاً يضم المئات من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي وحكّام الولايات وكبار الشخصيات الاحتكارية ذات النفوذ في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية هناك. ففي عام 1942 وقّع 181 عضواً من أعضاء الكونغرس الأميركي بياناً يدعو الرئيس روزفلت إلى "إعادة إنشاء الوطن القومي اليهودي" الذي قارب الإفلاس كمشروع إنجليزي بعد أن برد "حماس" الحكومة البريطانية له عندما انحاز الصهاينة اليهود إلى الأميركان وأتى هؤلاء الأخيرون يبحثون عن مرتكزات لهم في المنطقة العربية تمهيداً لحلولهم محل المستعمرين القدماء.
وأتى أخيراً ترومان مؤسّس إسرائيل الصهيوني الأميركي البروتستنتي إلى سدّة الرئاسة بعد روزفلت. وكان لترومان هذا قبل تولّيه المناصب الرسمية علاقات تجارية وطيدة بعدد من اليهود الصهاينة يأتي في مقدمتهم إدوار جاكبسون شريكه القديم في أعماله التجارية في كنساس. وقامت عندئذ قيادة عليا للحملة الصهيونية الأميركية الهادفة إلى إقامة دولة إسرائيل في فلسطين تتألف من: الرئيس ترومان ومستشاره اليهودي الصهيوني ديفيد نايلز وشريكه السابق إدوار جاكبسون. وكانت الأحوال تزداد تأزماً بالنسبة إلى الإنجليز في تلك الأيام. فالصهاينة اليهود بعد أن قطعوا اتصالاتهم بالنازيين عندما بدأ مد هؤلاء بالانحسار وتعاظم احتمال هزيمتهم في الحرب عزّزوا ارتباطهم بالقوة الصاعدة أميركا في الوقت الذي صعّدوا فيه أعمال العنف ضد سلطات الانتداب في فلسطين. فقاموا مثلاً في شهر تشرين الثاني عام 1944 باغتيال لورد موين الوزير البريطاني المعيّن لشؤون الشرق الأوسط في أحد شوارع القاهرة. وبعد الحرب مباشرة قاموا بنشاط واسع في أوروبا بتأييد ومساعدة سلطات الاحتلال الأميركية هناك لتحشيد اليهود الأوروبيين والخزر في بعض موانئ البحر الأبيض المتوسط تمهيداً لنقلهم بعد ذلك سرّاً إلى فلسطين. أما الإنجليز فإنهم أخذوا أمام الهجمة الأميركية بالتحضير لبناء خط دفاعي يستند إلى إمبراطوريتهم الاستعمارية القديمة في منطقتنا دون أن يدركوا أن هذه الإمبراطورية ستهدم وتكنس مع كل ما بني عليها في ظروف ما بعد الحرب، ولكن بكل أسف لصالح المستعمرين الجدد الأميركان. لقد قاوم الانتداب البريطاني مثلاً توسيع مشاريع الريّ الفلسطينية التي كان يدرسها ويحضّرها الأميركان والصهاينة Text Box: الصفحة الرئيسية | الفهرس ║ الصفحة السابقة | أعلى الصفحة | الصفحة التالية
Text Box: 14